23 ابريل 2025
بعد قراءة متعمقة فاحصة فى هذا المنجز المعرفى الجاد وهذا الطرح التاريخى الهادف، وجدت أن الكاتبة طافت بنا فى باحة التاريخ وفى آفاق الألم و أرض الحزن ،
وعلى مسرحٍ تراجيدى مخضب بالدموع عرضت مسلسلا تاريخيا للصراع بين البشر ومصيرهم المحتوم وعكست فى مرآة العظات والعبر أمثولة لأزمات الإنسان مع الحياة عبر التاريخ، ذلك المصير المكتوب لهم مهما عظمت حيثيتهم واستطالت سلطتهم ،
فقد قامت الكاتبة بتناول المشهد التاريخى الملكى من زاوية مغايرة للمعتاد ؛ فى نصوص راصدة لحياة ملكات ينتمين لأزمنة ممعنة فى الغياب،
قد زخرت المرويات التاريخية بحكاياتهن المأساوية والتى انتهت على نحو مفجع وحزين، فنالت كل واحدة منهن حصتها من أنصبة الموت فى عز الحياة.
ومن المتعارف عليه فى الوعى الجمعى والمخيال الشعبى أنه عندما يتم تناول قصص الملوك والملكات ينتابنا للوهلة الأولى شعور حثيث بأننا سنرى مشاهد الثراء والرفاهية والخدمة والراحة والسعادة والسيطرة والقوة والتمكن من مقاليد الأمور صغيرها وكبيرها،
متناسين تماما ذلك الجانب المظلم خلف كواليس السلطة والثراء والنفوذ وما يفرضه على أصحابه من ضغوط كبيرة،
ومن أعباء نفسية متمثلة فى المسئوليات الجسام والرقابة المستمرة والرصد الدائم والمحسوب لكل تصرفاتهم وعدم القدرة على عيش حياتهم الخاصة بحرية مثل أى إنسان بسيط أو فقير مجهول،
فكل هذه القيود تجعل الإنسان يفقد علاقاته الطبيعية الحقيقية ويعيش دائما فى حالة من القلق والوجل والتوتر وذلك خوفا من فقدان السلطة والنفوذ،
فضلا عن تلك المراسم والبروتوكولات المطوِّقة للأعناق والتى تشبه السجون والأغلال الذهبية،
تلك المراسيم والسلوكيات الرسمية المطالبين هم بتأديتها آناء الليل وأطراف النهار بل حتى فى أحلامهم.
فالسلطة من الممكن أن تجلب لأصحابها إنبهارا سطحيا وسعادة مؤقتة ورضا وقتيا ولكنها أبدا.. لا تضمن لهم السعادة الحقيقية .
"مأساة إحدى وعشرين ملكة"
العنوان هو عتبة النص وبطاقته التعريفية، وقد جاء العنوان جاذبا للقارئ ومشوقا له،
وقد جاء أيضا كاشفا عما ينوء به من دلالات موضحة لمضمون الكتاب وما تحويه دفتيه من أحداث موثقة وما يشمله المتن من أنباء مسجلة ، وما يحمله من مشاهد تصرخ بواقعيتها المؤلمة.
ثم يأتى السرد التاريخى والمتن فى ٣٣١ صفحة من القطع الكبير ، والطباعة الفاخرة عالية الجودة والورق الأبيض وملحق به صور ملونة موثقة شارحة وموضحة للشخصيات التاريخية المذكورة ،
وجاء السرد باختصار وإيجاز وبلا إسهاب أحيانا ويختلف حجمه السردى بين تاريخ ملكة وأخرى بقدر المصدر أو المرجع المتوفر لها، والكتاب تطوى أحداثه أزمنة من المسافات،
ومسافات من الأزمنة ليجمع بين سطوره ما انكشف عبر الزمان وما طمسه التاريخ من أحداث ومكائد ودسائس وقتل وإعدام ومرض وتعذيب واغتيالات وقهر وتحدٍ وظلم وانهيار لتلك الملكات
تلك النساء اللاتى كن يقفن دائما أمام شعوبهن برؤوس مرفوعة وأجساد شامخة؛ وفى حقيقة الأمر كانت نفوسهن جاثية على الأقدام مقهورة،
حتى وهن فى لحظاتهن الأخيرة مودعات الحياة أمام مقاصل الخذلان بعد فشلهن فى تنفيذ خطة للخروج الآمن من ظلم الأقارب أو بطش الشعوب الجائعة ومن جبروت قانون الدنيا وناموسها الحاكم، فلم يحتضن وطن (سلطان أو ملك) عبر التاريخ أبدا؛ إذا غضبت عليه الشعوب.
عرّجت الكاتبة بنفس طويل عن تلك الأحداث التاريخية بشرح متزن دون إسراف ولا تقتير ،
وتناولت حياة إحدى وعشرين ملكة منذ الولادة وحتى الموت باختصار وتصرف، ملكات حكمن بلادهن على إختلاف أعراقهن وجنسياتهن .. مصريات وبطالميات وتركيات وأوربيات وعربيات،
وقد حاولت الكاتبة بقدر المستطاع الإلتزام بالتأريخ الحولى والترتيب الزمنى لعصورهن المتباينة والمتباعدة جغرفيا وتاريخيا.
وجاءت لغة الكتاب سليمة بلا أخطاء تذكر وهذا يدل على تنسيق لغوى دقيق للنصوص.
وعلى المستوى الشخصى راقنى جدا تصميم الغلاف،
فالغلاف بوجه عام هو واجهة الطرح ولوحته المعبرة عن ماهيته والباب الذى يسبق الولوج إلى عوالم النص الجديد الغامض، والذى يحمسنا إما لقراءة العمل أو العزوف عنه ، وكثيرا ما تعلق بذاكرتنا أغلفة لا ننساها مهما مر بنا الزمن من فرط جمالها، وقد بدا الغلاف بالرغم من رصانته جميلا جذابا خاطفا لعين المتلقى، وجامعا مانعا معبرا عن فحوى النصوص وموضحا لما يمكن توقعه فى داخل المتن المجهول، لوحة من الجمال الأنيق لنسوة كان التاج عاملا مشتركا بينهن جميعا، بوجوه جميلة ولكنه ... جمال حزين .
إن أهم ما يخلفه قراءة كتاب فى عقل المتلقى هو تلك التساؤلات المنهكة و الباحثة عن إجابات شافية والتى تدفع القارئ للتساؤل والتفكير وإعمال العقل وطرح الآراء والرؤى ، وهذا هو الدور التنويرى لأى سِفر ثقافى جاد ، وهو ما نجح فيه الكتاب بالفعل حيث أعاد إلى أذهاننا ذلك التساؤل الملح و تلك الإشكالية الفلسفية القديمة
_و نحن نتحلق حول أكفان و جثث وقبور أولئك النسوة من ذوى الحيثيات الملكية ونستحضر أرواحن الهائمة المعذبة فى أروقة التاريخ _ لنتساءل أين تكمن السعادة إذن ؟؟؟ تلك السعادة التى فشلت السلطة والنفوذ المطلق والثراء الفاحش فى ضمانها !!!
أعتقد لعلها تكمن فى البساطة والرضا والراحة النفسية البعيدة عن التعقيد ، وقناعة الإنسان بما لديه و مدى إيمانه والحفاظ على علاقات إجتماعية صحية وصلات إنسانية وثيقة،
تحياتى للدكتورة المتألقة رشا فاروق والعقبى لأعمال جديدة قادمة .
د/ إنجى البسيونى
كاتبة روائية وناقدة ثقافية
باحثة تاريخ إسلامى
عضو اتحاد كتاب مصر
مقرر شعبة السيناريو
والدراما باتحاد الكتاب