09 ابريل 2025
الذكر الليثي هو أحد أنواع الذكر الصوفي التي اشتهرت بها محافظات جنوب مصر، وخاصة الأقصر وأسوان. يتميز هذا الذكر بطابعه الحركي والجماعي، حيث يجتمع الرجال في صفين متقابلين، ويؤدون حركات إيقاعية متناسقة تشبه الرقصات الاستعراضية. لكن هذه الحركات ليست مجرد استعراض، بل تحمل دلالات رمزية وروحية عميقة عند أهل التصوف. (محمد أبو العلا: الذكر عند الطرق الصوفية في مصر، ص ١٤٢)
في كل صف يقف عدد من الرجال، ويتحرك كل صف بحركات عكسية للصف الآخر، كأنهم في حالة حوار أو مواجهة رمزية. يرى بعض مشايخ الصوفية أن هذه الحركات تعبر عن صراع النفس مع الهوى، وتمثل مراحل من السير والسلوك إلى الله، حيث ينتقل السالك من حال إلى حال في رحلته الروحية. (عبد القادر عطا: الطرق الصوفية في مصر، ص ٢٢٥)
من السمات المميزة للذكر الليثي الصيحة القوية التي يطلقها الذاكرون عند الانتقال من حركة إلى أخرى. تأتي هذه الصيحة فجائية، بصوت يشبه زئير الأسد، ولهذا سُمي الذكر بـ"الليثي". لا تُطلق هذه الصيحة عبثًا، بل تحمل معاني روحية عند الصوفية، فهي تعبير عن الانعتاق من قيود النفس، ولحظة تجلٍ يتصل فيها القلب بالحضرة الإلهية. (عبد القادر عطا: الطرق الصوفية في مصر، ص ٢٢٥)
الكلمات التي تُردد في الذكر الليثي غالبًا ما تكون من أسماء الله الحسنى أو من كلمات الذكر الأساسية مثل "الله" و"هو"، وتُقال بإيقاع متدرج يبدأ ببطء ثم يعلو تدريجيًا. يهدف هذا الإيقاع إلى إدخال الذاكرين في حالة من الصفاء الروحي والوجد، وهو المقصد الأعلى للذكر عند الصوفية، حيث يسعى المريد إلى فناء صفاته والاتصال بنور الحق. (يوسف زيدان: فلسفة الجسد في التصوف، ص ٩٤)
الذكر الليثي لا يُمارَس فقط داخل الزوايا أو الأماكن المغلقة، بل يظهر بقوة في الموالد والاحتفالات الدينية، خاصة في صعيد مصر. يُشارك فيه مشايخ الطرق وأبناء القبائل والأهالي، مما يجعله طقسًا روحيًا واجتماعيًا في آنٍ واحد. ويبدأ كثير من المشاركين تعلم هذه الحركات منذ الطفولة، مما يعكس عمق حضور هذا الذكر في الوجدان الشعبي الجنوبي. (محمد الجمل: التصوف الشعبي في صعيد مصر، ص ١١٨)
ويُعد الذكر الليثي واحدًا من الأشكال التي تُظهر تكيّف التصوف مع البيئة المحيطة. ففي الجنوب، حيث تندمج الروح بالجسد والفن بالعقيدة، وجد أهل التصوف في هذا الذكر وسيلة للتعبير عن أشواقهم إلى الله، بلغة يفهمها الناس ويشعرون بها. يختلف عن الذكر الساكن المنتشر في مناطق أخرى، لكنه يحمل الروح ذاتها، ويؤدي الوظيفة نفسها في تهذيب النفس وتصفية القلب. (أحمد شلبي: التصوف الإسلامي، ص ٣٥٦)
هكذا يظهر الذكر الليثي كرقصة روحية تتجسد فيها معاني الذكر، حيث يلتقي الصوت بالحركة، والجسد بالروح، والذكر بالتعبير الشعبي. هو ليس مجرد طقس، بل تجربة روحية جماعية تعبّر عن حب الله، وتجسد علاقة الذاكر بخالقه، من خلال إيقاع نابض ينبض بحياة الروح ووجد القلب.