د.مروة الشناوي تكتب: هل المعالج النفسي لازم يكون مثالي؟!

بالأمس، كنت أتابع محاضرة مهمة لأستاذة متخصصة في علم النفس، تتحدث عن أساليب التلاعب النفسي، وكيف يمكن للضحايا التعامل مع هذه الأنماط السامة في حياتهم.

كلامها كان علميًا، دقيقًا، مدعومًا بأبحاث وتجارب شخصية، منها تجربة قاسية مرت بها.

لكن بدلًا من أن يركّز البعض على فائدة محتواها، انهالوا عليها بالهجوم فقط لأنها مطلّقة!

"إنتي فشلتي في جوازك، يبقى إزاي تقدّمي نصايح؟!"

كأن الإنسان لا يحق له التعلم من تجاربه، وكأن الفشل في جانب معين من الحياة يلغي خبرته وعلمه في مجالات أخرى! بل الأسوأ،

كأن المطلوب منها كمتخصصة نفسية أن تستمر في علاقتها السامة وتخفي مشاكلها حتى تنهار تمامًا، فقط لأنها "لازم تكون مثالية" أمام الناس !!. 

لكن الحقيقة أن هذا التفكير ليس سوى جهل مجتمعي يحتاج إلى علاج، لأن المعالج النفسي أو المختص في علم النفس ليس كائنًا خارقًا معصومًا من المشاكل،

وليس مطلوبًا منه أن يعيش حياة مثالية خالية من الألم والصدمات! بل العكس، الكثيرون يدخلون هذا المجال للنجاة بأنفسهم، ومنهم من تعرّضوا لصدمات نفسية قادتهم لفهم النفس البشرية بعمق أكبر.

يجب أن تعلم أن المعالج النفسي… إنسان قبل أن يكون معالجًا 

المجتمع ينظر إلى المعالج النفسي وكأنه شخصية "كاملة"، لا تعاني، لا تتألم، ولا تمر بمشاكل. وهذه نظرة غير منطقية! فكر معي

الطبيب الذي يعالج مرضى القلب، قد يُصاب هو نفسه بمرض في القلب، فهل هذا يجعله طبيبًا فاشلًا؟!

المدرب الرياضي قد يتعرض لإصابة، فهل هذا يعني أنه لا يفهم في الرياضة؟!

المعلم قد يكون لديه ابن ضعيف دراسيًا في مادة ما ، ويستعين بمعلم لإبنه .. فهل هذا يجعل علمه بلا قيمة؟!. 

لكن، ومع الأسف، بدلًا من التفكير بهذه الطريقة، نجد البعض يرددون أمثالًا شعبية تكرّس هذا الجهل، مثل: "باب النجار مخلّع".

وكأن المطلوب من كل مختص أن يكون مثالًا للكمال، وإلا فقد مصداقيته بالكامل!، 

ونسوا أن الكمال لله وحده وأن الله قصد هذا وجعل الأمر كله له حتي لا يغتر البشر ويعلم أن مهما وصلت لأعلي الدرجات العلمية لن تصل للكمال. وأستطيع أن أجعل في حياتك جزء لتتعلم منه ..وهذا هو الابتلاء. 

وهذا النوع من التفكير من الناس زرع انعدام الثقة بالآخرين، حتى أصبح الناس يتعاملون مع أي مختص في أي مجال وكأنه "روبوت" يجب أن يكون مثاليًا، وإذا ظهر أي شيء غير مثالي في حياته، انتهى أمره ولم يعد مؤهلًا للحديث في مجاله!. 

لماذا لا يستطيع المعالج النفسي.. مساعدة نفسه أحيانًا؟

يطرح البعض هذا السؤال بسخرية

"إذا كنت تفهم في علم النفس، فلماذا لديك مشكلات مع أهلك أو شريك حياتك؟!"

وهنا يأتي سوء الفهم الأكبر، لأن هناك حقائق لا يدركها الكثيرون

1- المعرفة لا تعني القدرة على السيطرة

المعالج النفسي يمكنه فهم المشكلة وتحليلها، لكنه لا يستطيع تغيير تصرفات الآخرين، خاصة لو كانوا نرجسيين أو مؤذيين نفسيًا..

لأن هؤلاء ليس لهم علاج ولن يتغيروا مهما فعلت .. ولكنهم يدمرون من حولهم .. فهنا دوره أدراك من حولهم وتوعيتهم للنجاه باانفسهم 

ليس كل من يفهم في علم النفس يستطيع الهروب بسهولة من بيئة سامة، فالظروف أحيانًا تكون أكبر من قدرة الفرد على المواجهة..

حتي لو كان المعالج نفسه خصوصا لو كانت هذه البيئة السامة بيئته وأهله وعائلته.

2- لا يمكن للإنسان أن يكون طبيب نفسه. 

عندما تكون داخل المشكلة، يصعب عليك أن تراها بوضوح كما لو كنت خارجها. المعالج قد يكون متأذيًا نفسيًا،

وفي الوقت نفسه، مطلوب منه أن يكون "المعالج" في المشكلة ذاتها! لهذا حتى المعالج النفسي يحتاج إلى دعم، سواء من زملائه أو حتى صديق مقرّب.

3-العائلة والمجتمع لا يمنحونه سلطة "المعالج".

عندما يكون لدى المعالج أهل نرجسيون أو مرضي مثلًا، فلن يستمعوا إليه لأنه في نظرهم "ابنهم"، "أخوهم الصغير"، "زوجته"، أو حتي صديق أحياناً .. وليس المعالج النفسي الذي يستشيرونه!. 

وهذا يجعل تأثيره عليهم محدودًا جدًا، مهما بلغت خبرته. ولا يستطيعوا الأعتراف له باانهم مخطئيين أو حتي مساعدته وتعريه أفعالهم البشعة أمامه.

ولهذا لو كان المعالج النفسي فردا من الأسرة فبكل أسف لم يساعده أحد ويحبطوا كل محاولاته ويرهقوه نفسياً. 

وبكل أسف المعالج النفسي محاصر بأحكام الناس من كل جهة!. 

المعالج لا يُحكم عليه فقط من المرضى أو المتابعين، بل من أهله وأصدقائه وكل من يعرف مشاكله الشخصية!. 

هل أحد منا يختار أهله؟!

هل يستطيع أي شخص أن يقرر أنه لن يتعامل مع أب أو أم نرجسيين أو أشقاء مؤذيين نفسيًا؟!. 

هل يستطيع المعالج النفسي التنبؤ مسبقًا بأن شريكه المستقبلي سيكون متلاعبًا نفسيًا، خاصة إن كان الطرف الآخر مثقفًا وذكيًا؟! ودارس حقيقة مرضه ومتقمص فكر المعالج النفسي؟!. 

هناك نوع من المتلاعبين النفسيين يكونون على درجة عالية من الذكاء، لدرجة أنهم يستطيعون خداع حتى المختصين النفسيين،

وهذا لبعض الوقت خاصة في فترات الخطوبة القصيرة، لأنهم يعرفون كيف يخفون حقيقتهم بمهارة..

ويعلمون حيل وفكر المعالج .. لكن الفرق بين الشخص العادي والمعالج، أن المعالج يكتشف التلاعب بسرعة أكبر، ويتخذ قرارات أسرع لحماية نفسه.

لكن هل يعني ذلك أنه لا يحق له الطلاق؟!. 

هل مطلوب منه أن يبقى في علاقة مدمّرة، حتى لا يقول عنه الناس إنه "فشل"؟!. 

حتى الأنبياء لم يستطيعوا إقناع أقرب الناس إليهم!. 

لمن لا يزال يعتقد أن عدم القدرة على إقناع الأهل أو السيطرة على الآخرين دليل على ضعف الشخص، فليتأمل سيرة النبي محمد ﷺ.

كان نبيًا مرسلًا، ومع ذلك:

لم يستطع إقناع جميع أهله بالإسلام.

عمه "أبو طالب" ظل يحبه ويحميه طوال حياته، لكنه مات على الكفر!. 

أقرب الناس إليه من قريش حاربوه، كذّبوه، وعاندوه رغم أنهم كانوا يعلمون أنه "الصادق الأمين"!

هل هذا كان فشلًا منه؟! هل كان غير قادر على الإقناع؟!

بالطبع لا! لكنه ببساطة لا يستطيع التحكم في قلوب الناس، لأن القرار في النهاية يعود لهم، والله وحده وليس له.

ونفس المنطق ينطبق على المعالج النفسي، فهو قد يمتلك كل الأدوات لفهم النفس البشرية، لكنه لا يستطيع فرض التغيير على الآخرين بالقوة، خاصة لو كانوا رافضين له.

لو وجدت شخصًا يحاول توعية الناس بعد تجربة قاسية مرّ بها، لا تهاجمه، بل استفد من تجربته، واعتبرها إنذارًا مبكرًا لك حتى لا تقع في نفس الفخ.

المعالج النفسي ليس نبيًا، وليس معصومًا، وليس مطلوبًا منه أن يكون بلا ماضٍ أو مشاعر .. أو مشاكل .. المطلوب منه فقط أن يكون واعيًا، قادرًا على مساعدة غيره، والأهم: أن يكون قادرًا على النجاة بنفسه من الدوامات التي لا يستطيع الآخرون الخروج منها!