26 فبراير 2025
في مشهدٍ لا يُحتمل، جلس مصطفى محمد أبو الوفا، شاب لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره، أمام الكاميرا في بث مباشر، يعلن بحسرة وألم أنه قرر إنهاء حياته. تناول "حبة الغلة" القاتلة، وسقط صريعًا بعد لحظات. لم يكن مجرد بثٍ،
بل كان صرخةً في وجه مجتمع أصم، لا يسمع أنين المكتئبين ولا يرى معاناتهم، لكنه يجيد إطلاق الأحكام عليهم بعد فوات الأوان.
مصطفى، الذي رحل تاركًا خلفه أمًا مكلومةً وقلوبًا تتساءل عن ذنب هذا الشاب، لم يكن يعاني من مشكلة شخصية فقط، بل من مشكلة جيل بأكمله.
جيل يُسحق يوميًا تحت وطأة الضغوط، يُعامل بلا اكتراث، ويُحكم عليه بالصمت لأنه "شاب وعليه أن يكون قويًا".
لكنه كان إنسانًا، يشعر، يتألم، يحتاج لكتفٍ يسنده، لكنه لم يجد. والأسوأ؟
عندما احتاج كلمة تداوي جرحه، جاءه تعليقٌ من ابن عمه يقول له بكل بساطة: "خد حبة الغلة تطفي نار قلبك".
لم تعد "حبة الغلة" مجرد مبيد حشري، بل أصبحت وسيلة انتحار سريعة، متاحة لكل شاب محطم، لكل قلب يائس، لكل من فقد الأمل في غدٍ أفضل.
هذه الحبة التي تُباع في الأسواق بملاليم، صارت سلاحًا يحصد الأرواح بصمت، دون أن يتحرك أحد لمنع تداولها أو وضع قيود على بيعها.
كم من شاب مثل مصطفى سقط ضحية لهذه الحبة؟ كم من روح أزهقت بينما كان يمكن إنقاذها بكلمة واحدة، باحتواء، بفهم، بحضن من الأهل بدلًا من الإهمال واللوم؟.
الاكتئاب.. الجريمة التي لا يعترف بها المجتمع والمفارقة العجيبة أن الناس يؤمنون بالحسد والسحر، ويهرعون إلى المشعوذين والدجالين طلبًا للعلاج، لكنهم يرفضون الاعتراف بالمرض النفسي،
وكأنه وهمٌ اخترعه الجيل الجديد للفت الانتباه! يهربون من مواجهة الحقيقة، يتجاهلون علامات الانهيار، حتى يأتي الخبر الصادم: "شابٌ آخر أنهى حياته".
الشباب اليوم يواجهون ضغوطًا تفوق قدرتهم على التحمل: متطلبات مادية، ضغوط أسرية، مجتمع لا يرحم، بيئة لا تفهم.
وعندما يسقط أحدهم تحت وطأة هذا الحمل الثقيل، لا يجد من يمد له يد العون، بل يجد من يسخر، من يلوم،
من يقول له: "شد حيلك، كلنا عندنا مشاكل". لكن ليست كل المشاكل تُحتمل، وليس كل القلوب قوية بما يكفي للصمود وحدها.
من المسؤول؟
المسؤولية هنا ليست فردية، بل هي مسؤولية مجتمع بأسره:
الأسرة التي لم تحتوِ أبناءها، ولم تفهم أن الضغط لا يصنع رجالًا، بل يحطم النفوس.
الأصدقاء الذين يلقون الكلمات القاتلة بلا مبالاة، دون أن يدركوا أنهم قد يدفعون شخصًا إلى الموت.
المجتمع الذي لا يعترف بالأمراض النفسية، ويتعامل مع المكتئب وكأنه شخص ضعيف يستحق السخرية لا المساعدة.
الدولة التي تسمح ببيع "حبة الغلة" دون قيود، تاركة الموت في متناول اليد، دون قوانين تمنع هذا السلاح الصامت من الفتك بالشباب.
كم من مصطفى آخر سينهار؟ كم من شاب سيقرر أن الموت أهون من العيش في مجتمع لا يراه ولا يسمعه؟،
إلى متى سنظل ندفن رؤوسنا في الرمال، نلوم المنتحر ونغض الطرف عن الأسباب الحقيقية؟.
المرض النفسي ليس ضعفًا، والاكتئاب ليس دلالًا، والانتحار ليس هروبًا، بل هو صرخة ألم لم تجد من يسمعها في الوقت المناسب.
علينا أن نكسر حاجز الصمت، أن نعترف بأن هناك أزمة، أن نتحرك قبل أن نخسر مزيدًا من الأرواح الشابة التي تستحق الحياة، لكن لم تجد من يمنحها الفرصة.