15 ديسمبر 2024
البيانو هي قصة قصيرة جدا للكاتبة غادة صلاح الدين وجدت فيها صورة شعرية متكاملة الملامح.
سأعرضها كاملة وأحلق بين طيات حروفها لأستنبط عمق المعنى .
- البيانو -
أخبرته أصابع البيانو أن يترفق بها، دقات الساعة المجاورة أعلنت عصيانها عندما ارتفع صوت الحب الخارج من جوف هذه الآلة السوداء الكبيرة،
جاء البستاني المسئول عن الحديقة المجاورة يقول: إن أوراق الورد تتأذى من شدة الشوق، وأن العصفور داخل القفص يريد أن ينطق أنا حر،
وأن منهج الجغرافيا لهذا العام صعب على هذا الطالب الذي يسكن الطابق الثاني في العمارة المقابلة، وأن ثمة علاقة لم تبدأ بعد بين إثنين لم يحن موعد لقائهم قد تكون انتهت ،
وأيضا أن برج إيفل لم يعد بهذا الإسم بعد أن زارته امرأة حسناء، زرقة عينيها أشد من زرقة بحر الإسكندرية،
وأن قلبي لم تهدأ دقاته منذ عزفت له على أصابع البيانو كلمات بشارة خوري
"يبكي ويضحك لا حزنا ولا طرفا
كعاشقٍ خط سطرا في الهوى ومحا"
فعرفتُ كيف يخرج من جوف البيانو هذا العبير الفواح،كعازفٍ تركه اللحن و هرب.
وتصور الكاتبة في بداية المعزوفة الموسيقية أصابع البيانو بأنها إنسان يشعر بوجع صاحبه العازف على أوتار.
ثم انتقلت الصورة بسلاسة لترسم المشهد بريشة فنان لنرى بأعيننا ونسمع بأذننا من خلال الكلمات المرسومة.
دقات الساعة وكأنها تصيح بالعازف الموجوع انهض وانفض وجعك، قد حان وقت اليقظة، وتوضيح لون الآلة يعزز المعنى أكثر لحالة الألم التي يغرق بها بطلنا المذكور أعلاه.
ولم تكتفي بذلك بل تنتقل خارج حدود الجدران لتكشف عن ولع العازف وقوة حنينه للمحبوب بتأذي أوراق الورود وذلك على لسان البستاني، وكأن الخبر يُنشر خارج حدود قلب المحب، الجميع يرى ويعلم.
تَتابع الصور المثيرة للشفقة لأصحابها تعزز المعنى أكثر وتبرزه كأمثلة للوجع الذي يشعر به المحب المغدور في قلبه "العصفور داخل قفصه معترض أنا حر"
"الطالب الذي يصعُب عليه منهج الجغرافيا"
"وقصة مماثلة كادت أن تحدث وانطفأ نورها في مهدها قد تكون بسبب تلك الفاجعة المثارة لعازف يتألم ويعلن أوجاعه بنغمات تصرح بقصته لتُؤخذ منها العبر.
انظر معي قوة التحول حتى برج إيفل وفيه إشارة لكبرياء المحب سيُغير اسمه بعد أن زارته امرأة حسناء ،
أي سيقدم تنازلات لإرضاء صاحبة العيون الزرقاء كي تبقى و لا ترحل ،
وزرقة البحر هنا تبلور الغموض بالقصة الحزينة للعازف صاحب الألم، كل ما سبق ذكره سلاسل مترابطة من الأمثلة تؤصل الحالة المُحكى عنها.
ثمة نور هنا يفصح عن ثقافة الكاتبة واختيارها لأبيات شاعر الحب والهوى بشارة الخوري
كدليل على مدى العشق وجماله وتعزيز أكثر عمقا لشرح قصة المحب ببيت للشاعر لخص ما حدث.
وهنا أضافت الكاتبة ما يجعل المعزوفة التي عزفتها بإتقان تام إضافة غنية أثقلتها بجمال يَنم عن روح شاعرة .
السطر الأخير أعدت قرأته مرات عديدة لأتلذذ برحيقه في حلق روحي لأحلق بعده في دنيا الجمال ويكفي ذكره دون تمحيص
(فعرفت كيف يخرج من جوف البيانو هذا العبير الفواح، كعازف تركه اللحن و هرب)
لُخصت القصة بأكملها في تلك الجملة التعبيريةالبديعة ياله من إبداع .